فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أي: البحر {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} أي: كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم، وعدم تفكرهم ومبالاتهم بها. وقد روي أن فرعون، بعد أن أبصر ما أبصر من الضربات الربانية على مصر، أذن لموسى وقومه أن يخرجوا من مصر، ليقيموا عبادة الله تعالى حيث شاؤوا، فارتحل بنو إسرائيل على عجلٍ ليلًا، وساروا بكل ما معهم من غنم وبقر ومواشٍ، من عين شمس إلى سُكُّوت، وسلكوا طريق برية البحر الأحمر، ولما سمع فرعون بارتحالهم، ندم على ما فعل، من إطلاقهم من خدمته، فجمع جيشه ومراكبه الحربية، ولحقهم فأدركهم، وكانوا قد وصلوا إلى شاطئ البحر الأحمر. حينئذ خاف الإسرائيليون، وأخذوا يتذمرون على موسى، فقال لهم: لا تخافوا، إن الله معنا، ثم أمر تعالى موسى، فمد يده إلى البحر الأحمر، فانشق ماؤه، وصار فيه طريق واسعة، وأرسل الله ريحًا شرقية شديدة، فيبس قعره، فعبر فيه الإسرائيليون، والماء عن يمينهم وشمالهم، فتبعهم فرعون وجنوده وتوسطوا البحر، فمد موسى يده، بإذن الله، على البحر، فارتد ماؤه سريعًا، وغمر فرعون وجنوده ومراكبه، فغرقوا جميعًا، ثم طفت جيفهم على وجه الماء، وانقذفت إلى الساحل، فشاهدها الإسرائيليون عيانًا.
هذا ملخص ما روي هنا.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية أنه تعالى أهلكهم بعد أن أزاح العلة بالآيات، وتدل على أن ما أصابهم كان عقوبة وجزاء على فعلهم، وتدل على قبح الإعتراض على آيات الله، وتدل على وجوب النظر، وتدل على أن النكث فعلهم، والإعراض، فلذلك عاقبهم عليهما. انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}.
هذا محل العبرة من القصة، فهو مفرع عليها تفريع النتيجة على المقدمات والفذلكة على القصة، فإنه بعد أن وصف عناد فرعون وَمَلَئهِ وتكذيبَهم رسالة موسى واقتراحهم على موسى أن يجيء بآية ومشاهدتهم آية انقلاب العصا ثعبانًا، وتغيير لون يده، ورميَهم موسى بالسحر، وسوء المقصد، ومعارضة السحرة معجزة موسى وتغلب موسى عليهم، وكيف أخذ الله آل فرعون بمصائِب جعلها آيات على صدق موسى، وكيف كابروا وعاندوا، حتى ألْجِئوا إلى أن وعدوا موسى بالإيمان وتسريح بني إسرائيل معه وعاهدوه على ذلك، فلما كشف عنهم الرجز نكثوا، فأخبر الله بأن ذلك ترتب عليه استئصال المستكبرين المعاندين، وتحريرُ المؤمنين الذين كانوا مستضعفين.
وذلك محل العبرة، فلذلك كان الموقع في عطفه لفاء الترتيب والتسبب، وقد اتبع في هذا الختام الأسلوبُ التي اختتمت به القصص التي قبل هذا.
والانتقام افتعال، وهو العقوبة الشديدة الشبيهة بالنّقْم.
وهو غضب الحنق على ذنْببِ اعتداء على المنتقممِ ينكر ويَكْرَه فاعلَه.
وأصل صيغة الافتعال أن تكون لمطاوعة فَعَل المتعدي بحيث يكون فاعل المطاوعة هو مفعول الفعل المجرد، ولم يسمع أن قالوا نَقَمَه فانتقم.
أي أحفظه وأغضبه فعاقب، فهذه المطاوعة أميت فعلها المجردُ، وعدوه إلى المعاقب بمن الابتدائية للدلالة على أنه منشأ العقوبة وسببها وأنه مستوجبها، وتقدم الكلام على المجرد من هذا الفعل عند قوله تعالى آنفًا: {وما تَنَقم منا إلاّ أن آمنا بآيات ربنا} [الأعراف: 126].
وكان إغراقهم انتقامًا من الله لذاته لأنهم جحدوا انفراد الله بالإلاهية، أو جحدوا إلاهيته أصلًا، وانتقامًا أيضًا لبني إسرائيل لأن فرعون وقومه ظلموا بني إسرائيل وأذلوهم واستعبدوهم باطلًا.
والإغراقُ: الإلقاء في الماء المستبحر الذي يغمر المُلْقَى فلا يترك له تنفسًا، وهو بيان للانتقام وتفصيل لمجمله، فالفاء في قوله: {فأغرقناهم} للترتيب الذكري، وهو عطف مفصّل على مجمل كما في قوله تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتُلوا أنفسكم} [البقرة: 54].
وحَمَل صاحب الكشاف الفعل المعطوف عليه هنا على معنى العزم فيكون المعنى: فأرْدنا الانتقام منهم فأغرقناهم، وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} في سورة البقرة (54).
واليمّ: البحر والنهر العظيم، قيل هو كلمة عربية.
وهو صنيع الكشاف إذ جعله مشتقًا من التيمم لأنه يُقصد للمنتفعين به، وقال بعضْ اللغويين: هو معرب عن السريانية وأصله فيها يَمّا وقال شَيْدَلَةُ: هو من القبطية، وقال ابن الجوزي: هو من العبرية، ولعله موجود في هذه اللغات.
ولعل أصله عربي وأخذته لغات أخرى ساميّة من العربية والمراد به هنا بحر القُلْزُم، المسمى في التوراة بحر سُوف، وهو البحر الأحمر.
وقد أطلق {اليم} على نهر النيل في قوله تعالى: {أن اقذفيه في التابوت فاقْذفيه في اليَمّ} [طه: 39] وقوله: {فإذا خفتتِ عليه فألقيه في اليمّ} [القصص: 7]، فالتعريف في قوله: {اليَمّ} هنا تعريف العهد الذهني عند علماء المعاني المعروف بتعريف الجنس عند النحاة إذ ليس في العبرة اهتمام ببحر مخصوص ولكن بفرد من هذا النوع.
وقد أغرق فرعون وجنده في البحر الأحمر حين لحق بني إسرائيل يريد صدهم عن الخروج من أرض مصر، وتقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة البقرة وسيأتي تفصيله عند قوله تعالى: {حتى إذا أدركه الغرق} في سورة يونس (90).
والباء في {بأنهم} للسببية، أي: أغرقناهم جزاء على تكذيبهم بالآيات.
والغفلة ذهول الذهن عن تذكر شيء، وتقدمت في قوله تعالى: {وإن كنا عن دراستهم لغافلين} في سورة الأنعام (156)، وأريد بها التغافل عن عمد وهو الإعراض عن التفكر في الآيات، وإباية النظر في دلالتها على صدق موسى، فإطلاق الغفلة على هذا مجاز، وهذا تعريض بمشركي العرب في إعراضهم عن التفكر في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالة معجزة القرآن، فلذلك أعيد التصريح بتسبب الإعراض في غرقهم مع استفادته من التفريع بالفاء في قوله: {فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم} تنبيهًا للسامعين للانتقال من القصة إلى العبرة.
وقد صيغ الإخبار عن إعراضهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على أن هذا الإعراض ثابت لهم، وراسخ فيهم، وأنه هو علة التكذيب المصوغغِ خبرُه بصيغة الجملة الفعلية لإفادة تجدده عند تجدد الآيات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}.
ويوضح هنا سبحانه أنه مادام قد أخذهم بالعقاب في ذواتهم، وفي مقومات حياتهم، وفي معكرات صفوهم لم يبق إلا أن يهلكوا؛ لأنه لا فائدة منهم؛ لذلك جاء الأمر بإغراقهم، لا عن جبروت قدرة، بل عن عدالة تقدير؛ لأنهم كذبوا بالآيات وأقاموا على كفرهم. ويلاحظ هنا أن أهم ما في القضية وهو الإِغراق قد ذكر على هيئة الإِيجاز، وهو الحادث الذي جاء في سورة أخرى بالتفصيل، فالحق سبحانه يقول: {وَأَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ} [الشعراء: 52].
ولم يأت الحق هنا بتفاصيل قصة الإِغراق؛ لأن كل آية في القرآن تعالج موقفًا، وتعالج لقطة من اللقطات؛ لأن القصة تأتي بإجمال في موضع وبإطناب في موضع آخر، وهنا يأتي موقف الإِغراق بإجمال: {فانتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم}.
وكلمة {فَأَغْرَقْنَاهُمْ} لها قصة طويلة معروفة ومعروضة عرضًا آخر في سورة أخرى، فحين خرج موسى وبنو إسرائيل من مصر خرج وراءهم فرعون، وحين رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا بمنطق الأحداث: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}. مدركون من فرعون وقومه لأن أمامهم البحر وليس عندهم وسيلة لركوب البحر. لكن موسى المرسل من الله علم أن الله لن يخذله؛ لأنه يريد أن يتم نعمة الهداية على يديه، كان موسى عليه السلام ممتلئًا باليقين والثقة لذلك قال بملء فيه: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
هو يقول: {كلا} أي لن يدركوكم لا بأسبابه، بل أسباب من أرسله بدليل أنه جاء بحيثيتها معها وقال: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}. لقد تكلم بمنطق المؤمن الذي أوى إلى ركن شديد، وأن المسائل لا يمكن أن تنتهي عند هذا الوضع؛ لأنه لم يؤد المهمة بكاملها، لذلك قال: {كلا} يملء فيه، مع أن الأسباب مقطوع بها. فالبحر أمامهم والعدو من خلفهم، وأتبع ذلك بقوله: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} بالحفظ والنصرة.. أي أن الأسباب التي سبق أن أرسلها معي الله فوق نطاق أسباب البشر، فالعصا سبق أن نصره الله بها على السحرة، وهي العصا نفسها التي أوحى له سبحانه باستعمالها في هذه الحالة العصيبة قائلًا له: {اضرب بِّعَصَاكَ البحر...} [الشعراء: 63].
ونعرف أن البحر وعاء للماء، وأول قانون للماء هو السيولة التي تعينه على الاستطراق، ولو لم يكن الماء سائلًا، وبه جمود وغلظة لصار قطعًا غير متساوية، ولكن الذي يعينه على الاستطراق هو حالة السيولة، ولذلك حين نريد أن نضبط دقة استواء أي سطح نلجأ إلى ميزان الماء.
وقال الحق سبحانه لموسى عليه السلام: {اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63].
وحين ضرب موسى بعصاه البحر امتنع عن الماء قانون السيولة وفقد قانون الاستطراق، ويصور الله هذا الأمر لنا تصويرًا دقيقًا فيقول: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} أي صار كل جزء منه كالطود وهو الجبل، ونجد في الجبل الصلابة، وهكذا فقد الماء السيولة وصار كل فرق كالجبل الواقف، ولا يقدر على ذلك إلا الخالق، لأن السيولة والاستطراق سنة كونية، والذي خلق هذه السنة الكونية هو الذي يستطيع أن يبطلها. وحين سار موسى وقومه في اليابس، وقطع الجميع الطريق الموجود في البحر سار خلفهم فرعون وجنوده وأراد موسى أن يضرب البحر بعصاه ليعود إلى السيولة وإلى الاستطراق حتى لا يتبعه فرعون وجنوده، وهذا تفكير بشري أيضًا، ويأتي لموسى أمر من الله: {واترك البحر رَهْوًا...} [الدخان: 24].
أي اترك البحر ساكنًا على هيئته التي هو عليها ليدخله فرعون وقومه، إنه سبحانه لا يريد للماء أن يعود إلى السيولة والاستطراق حتى يُغري الطريق اليابس فرعون وقومه فيأتوا وراءكم ليلحقوا بكم، فإذا ما دخلوا واستوعبهم اليابس؛ أعدنا سيولة الماء واستطراقه فيغرقون؛ ليثبت الحق أنه ينجي ويهلك بالشيء الواحد، وكل ذلك يجمله الحق هنا في قوله: {فانتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم}. و{اليم} هو المكان الذي يوجد به مياه عميقة، ويطلق مرة على المالح، ومرة على العذب، فمثلًا في قصة أم موسى، يقول الحق: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم...} [القصص: 7].
وكان المقصود باليم هناك النيل، لكن المقصود به هنا في سورة الأعراف هو البحر. ويأتي سبب الإِغراق في قوله: {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ}.
كيف إذن يعذبهم ويغرقهم نتيجة الغفلة، ونعلم أن الغفلة ليس لها حساب؟ بدليل أن الصائم قد يغفل ويأكل ويصح صيامه. ويقال إن ربنا أعطى له وجبة تغذيه بالطعام وحسب له الصيام لأنه غافل. لكن هنا يختلف أمر الغفلة؛ فالمراد ب {غافلين} هنا أنهم قد كانوا قد كذبوا بآيات الله ثم أعرضوا إعراضًا لا يكون إلا عن غافل عن الله وعن منهجه، ولو أنهم كانوا عبادًا مستحضرين لمنهج الله لما صح أن يغفلوا، وهذا القول يحقق ما سبق ان قاله سبحانه: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ...} [الأعراف: 129].
ثم يأتي بعد ذلك القول الذي يحقق ما سبق أن قاله سبحانه: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]. اهـ.